أبو العلاء فذٌّ في الأدب العربي كله، وصل من حقائق الأشياء إلى ما لم يصل إليه أديبٌ عربيٌّ قبله أو بعده. فإذا فخرَ الأدب اليوناني القديم بأبيقور، وإذا فخرَ الأدب اللاتيني القديم بلوكريس، وإذا فخرت الحضارة الأوروبية الحديثة بأدبائها وفلاسفتها المُتشائمين، فمن حق الأدب العربي أن يفخر بأبي العلاء؛ فليس أبو العلاء أقل من هؤلاء الممتازين خطرًا ولا أهون منهم شأنًا، ولعله يمتاز منهم بفنون من الأدب والعلم لم يظفروا بها؛ فقد كان أبو العلاء فيلسوفًا عميق الفلسفة، صادق النظر في أمور الحياة والأحياء، وكان أبو العلاء شاعرًا، رفيع الشعر نقيَّه خلابه، يبلغ به من الروعة الهادئة في كثيرٍ من الأحيان ما لم يبلغه الفحول من شعراء العربية في قديمها وحديثها. وقد عرَّفتُ أبا العلاء إلى خاصة الناس، وأحبُّ أن أُعرِّفه إلى عامتهم، وأن أُعرِّفه إلى عامتهم بالترجمة الصحيحة عنه، والتفسير الدقيق لشعره، فلو قد نشرتُ "اللزوميات" في عامة المثقفين لما فهمها أكثرهم؛ لأن أبا العلاء لم يُنشئ اللزوميات لعامة المثقفين، بل لستُ أدري! لعله أن يكون قد أنشأها لنفسه، وللذين يرقون إلى طبقته من أصحاب العلم الكثير والبصيرة النافذة. فما الذي يمنع أن أُيسّر اللزوميات للذين لا يستطيعون أن يقرأوا شعرها العنيف الذي لا يخلو من غرابة. ربما بعد قراءة تلك الفقرة من حديث طه حسين عن هذه التحفة الأدبية التي بين أيدينا تُدرك -عزيزي القارئ-الصلة التي تربط العميد بأبي العلاء، فهما صوتٌ وصداه، كما وصفها الكثيرون، ولا نعرف أيهما الصوت وأيهما الصدى..